لنحلم بغد أفضل
محمد الحداد
هل يمكن أن نحلم بشرق أوسط جديد، يخرج في القريب العاجل من أزماته المستفحلة، ويعتمد الواقعية مبدأ له في التفكير والتعامل؟
الشرق الأوسط الذي كان في القديم مهد الأديان الكبرى تحوّل في العصر الحديث إلى أرض توريد الأيديولوجيات واليوتوبيات، عاش عقوداً على أوهام القومية النقية، ثم عقوداً أخرى على وهم الإسلام السياسي. ثم مع بداية الألفية الثالثة، وفي الوقت الذي كانت أصوات كثيرة تبشر بنهاية الأيديولوجيات، عاش «صرعة» جديدة اختلطت فيها بقايا القومية وأوهام الإسلام السياسي مع نتائج العولمة المتوحشة ودعاوى نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية، يضاف إلى ذلك كله خليط غير واضح المعالم من تدخلات أجنبية ولوبيات مالية ومصالح متشابكة. لقد بدأ مع الألفية الثالثة اختبار النظريات الجديدة في هذه المنطقة العريقة وكأن شعوبه فئران مخابر. جاءت الدفعة الأولى مع احتلال العراق الذي كان مدمراً، لأنه لم يتوقف عند حدّ إزاحة نظام حاكم، على غرار ما حصل مع ألمانيا واليابان إثر الحرب العالمية الثانية، بل تعدّاه إلى تدمير مقومات الدولة الوطنية واختبار منظومة حكم تقتل المواطنة لحساب الطائفية، بدل تمهيد الطريق لقيام وطن حديث. ثم جاءت الدفعة الثانية مع ما دعي «الربيع العربي»، وقد بدأ مبشراً بالحرية والكرامة، لكنه سرعان ما تردّى في أتون العنف والإرهاب والفوضى، وطغت المصالح والرؤى الخارجية على آمال الشعوب وأحلامها، فأصبح كلّ شيء يدار من الخارج.
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يخف اعتباره «الربيع العربي» استمراراً لحادثة «تحرير» العراق، وكان ذلك نذير شؤم أعلنه في أول خطاب أمام الكونغرس يقدم فيه قراءته لما حصل آنذاك في المنطقة. والسيدة هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيته، قدمت في كتابها «القرارات الصعبة» معطيات مفيدة عن الأفكار الضمنية والبرامج العملية التي كانت بلادها تختبرها في الشرق الأوسط في إطار سياسة «القوة الذكية». لكنّ الشرق الأوسط ظلّ عصيّاً على كل مشاريع إعادة تشكيله طالما كانت مستوردة من الخارج.
ليس من السهل الدفاع عن أمرين في الآن ذاته: ضرورة الإصلاح والتغيير في هذه المنطقة ورفض الرؤى المسقطة من الخارج. الاستقطاب الشديد والحماسة الفائقة تغلق المجال لخطاب يرفض التبسيط والنمطية. لكن الحقيقة أيضاً أن الثمن الباهظ الذي يدفعه الشرق الأوسط، بشرياً ومادياً ونفسياً، إلى تجارب طوباوية فاشلة، يقضي اليوم بإيقاف هذه المجزرة الهائلة.
لعلنا في بداية عودة الوعي، نتيجة الكوارث المتعاقبة في المنطقة التي قد تدفع إلى مراجعات شتى. يمكن أن نحلم بأن تنجح مفاوضات الرياض 2 في عزل المعارضة السورية الراديكالية وإقناع المعتدلين بأنه لا فائدة من انتصار يكون ثمنه إفناء شعب بأسره وتدمير بلد بكامله، وأنه ينبغي المراهنة على المستقبل لا على المواقف المزايدة، بعيداً من الآلام اليومية للضحايا، وإلا تساوى المعارض والجلاد في القسوة. يمكن أن نحلم بأن يؤدّي تخفيف التوتر في الملف السوري والشعبية التي اكتسبها الرئيس الحريري في الأيام الأخيرة إلى اقتناع كل الأطراف في لبنان بضرورة التطبيق الصادق لمبدأ النأي بالنفس سبيلا وحيدة للمحافظة على البلد في هذه العاصفة. يمكن أن نحلم بأن تستفيد مصر من استعادة دورها الإقليمي والنجاحات النسبية التي حققتها في المجال الأمني، كي تعيد الاعتبار للعمل السياسي والمدني رافداً مهماً لحربها على الذين حاولوا تدميرها من الداخل. يمكن أن نحلم بتركيا معتمدة مجدداً خطة «الصفر مشاكل»، متضامنة مع جيرانها، وهؤلاء متضامنين معها، بعيداً من الترهات التي خلفها تاريخ بعيد. ويمكن أن نحلم بأن يدرك الإيرانيون أنهم إذا كانوا صادقين في محاربة ما يدعونه الشيطان الأكبر فإنهم قد قدموا له ولمؤسساته الحربية أثمن الهدايا بتوتير المنطقة من دون توقف منذ 1979. ويمكن أن نحلم بأن تعود قطر إلى الحضن العربي والخليجي عندما تتخلى عن أحلام العظمة. ويمكن أن نحلم بأن يوحد الفلسطينيون صفوفهم ويكون أول مطالبهم للآخرين أن يمتنعوا عن توظيف قضيتهم في صراعات لا تفيدهم في شيء بل تضعفهم بإضعاف كل المنطقة. يمكن أن نحلم بأن تُوجّه كل الطاقات والأموال المنفقة حالياً في الحروب والصراعات لتحسين الواقع اليومي للمواطنين وفتح آفاق جديدة للأجيال المقبلة والانخراط في الثورة الصناعية الرابعة بعد غيابهم في الثورات السابقة.
ويظلّ كل ذلك حلماً، لكنه أقل ضرراً من أحلام الهيمنة التي تدفع إلى المزيد من الفوضى والدمار. ثم أليست الأحلام وسيلة أحياناً لحشد الطموح أو، على الأقل، كي لا يفقد الإنسان إنسانيته في عالم انهارت فيه كل القيم والثوابت؟
الشرق الأوسط الذي كان في القديم مهد الأديان الكبرى تحوّل في العصر الحديث إلى أرض توريد الأيديولوجيات واليوتوبيات، عاش عقوداً على أوهام القومية النقية، ثم عقوداً أخرى على وهم الإسلام السياسي. ثم مع بداية الألفية الثالثة، وفي الوقت الذي كانت أصوات كثيرة تبشر بنهاية الأيديولوجيات، عاش «صرعة» جديدة اختلطت فيها بقايا القومية وأوهام الإسلام السياسي مع نتائج العولمة المتوحشة ودعاوى نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية، يضاف إلى ذلك كله خليط غير واضح المعالم من تدخلات أجنبية ولوبيات مالية ومصالح متشابكة. لقد بدأ مع الألفية الثالثة اختبار النظريات الجديدة في هذه المنطقة العريقة وكأن شعوبه فئران مخابر. جاءت الدفعة الأولى مع احتلال العراق الذي كان مدمراً، لأنه لم يتوقف عند حدّ إزاحة نظام حاكم، على غرار ما حصل مع ألمانيا واليابان إثر الحرب العالمية الثانية، بل تعدّاه إلى تدمير مقومات الدولة الوطنية واختبار منظومة حكم تقتل المواطنة لحساب الطائفية، بدل تمهيد الطريق لقيام وطن حديث. ثم جاءت الدفعة الثانية مع ما دعي «الربيع العربي»، وقد بدأ مبشراً بالحرية والكرامة، لكنه سرعان ما تردّى في أتون العنف والإرهاب والفوضى، وطغت المصالح والرؤى الخارجية على آمال الشعوب وأحلامها، فأصبح كلّ شيء يدار من الخارج.
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يخف اعتباره «الربيع العربي» استمراراً لحادثة «تحرير» العراق، وكان ذلك نذير شؤم أعلنه في أول خطاب أمام الكونغرس يقدم فيه قراءته لما حصل آنذاك في المنطقة. والسيدة هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيته، قدمت في كتابها «القرارات الصعبة» معطيات مفيدة عن الأفكار الضمنية والبرامج العملية التي كانت بلادها تختبرها في الشرق الأوسط في إطار سياسة «القوة الذكية». لكنّ الشرق الأوسط ظلّ عصيّاً على كل مشاريع إعادة تشكيله طالما كانت مستوردة من الخارج.
ليس من السهل الدفاع عن أمرين في الآن ذاته: ضرورة الإصلاح والتغيير في هذه المنطقة ورفض الرؤى المسقطة من الخارج. الاستقطاب الشديد والحماسة الفائقة تغلق المجال لخطاب يرفض التبسيط والنمطية. لكن الحقيقة أيضاً أن الثمن الباهظ الذي يدفعه الشرق الأوسط، بشرياً ومادياً ونفسياً، إلى تجارب طوباوية فاشلة، يقضي اليوم بإيقاف هذه المجزرة الهائلة.
لعلنا في بداية عودة الوعي، نتيجة الكوارث المتعاقبة في المنطقة التي قد تدفع إلى مراجعات شتى. يمكن أن نحلم بأن تنجح مفاوضات الرياض 2 في عزل المعارضة السورية الراديكالية وإقناع المعتدلين بأنه لا فائدة من انتصار يكون ثمنه إفناء شعب بأسره وتدمير بلد بكامله، وأنه ينبغي المراهنة على المستقبل لا على المواقف المزايدة، بعيداً من الآلام اليومية للضحايا، وإلا تساوى المعارض والجلاد في القسوة. يمكن أن نحلم بأن يؤدّي تخفيف التوتر في الملف السوري والشعبية التي اكتسبها الرئيس الحريري في الأيام الأخيرة إلى اقتناع كل الأطراف في لبنان بضرورة التطبيق الصادق لمبدأ النأي بالنفس سبيلا وحيدة للمحافظة على البلد في هذه العاصفة. يمكن أن نحلم بأن تستفيد مصر من استعادة دورها الإقليمي والنجاحات النسبية التي حققتها في المجال الأمني، كي تعيد الاعتبار للعمل السياسي والمدني رافداً مهماً لحربها على الذين حاولوا تدميرها من الداخل. يمكن أن نحلم بتركيا معتمدة مجدداً خطة «الصفر مشاكل»، متضامنة مع جيرانها، وهؤلاء متضامنين معها، بعيداً من الترهات التي خلفها تاريخ بعيد. ويمكن أن نحلم بأن يدرك الإيرانيون أنهم إذا كانوا صادقين في محاربة ما يدعونه الشيطان الأكبر فإنهم قد قدموا له ولمؤسساته الحربية أثمن الهدايا بتوتير المنطقة من دون توقف منذ 1979. ويمكن أن نحلم بأن تعود قطر إلى الحضن العربي والخليجي عندما تتخلى عن أحلام العظمة. ويمكن أن نحلم بأن يوحد الفلسطينيون صفوفهم ويكون أول مطالبهم للآخرين أن يمتنعوا عن توظيف قضيتهم في صراعات لا تفيدهم في شيء بل تضعفهم بإضعاف كل المنطقة. يمكن أن نحلم بأن تُوجّه كل الطاقات والأموال المنفقة حالياً في الحروب والصراعات لتحسين الواقع اليومي للمواطنين وفتح آفاق جديدة للأجيال المقبلة والانخراط في الثورة الصناعية الرابعة بعد غيابهم في الثورات السابقة.
ويظلّ كل ذلك حلماً، لكنه أقل ضرراً من أحلام الهيمنة التي تدفع إلى المزيد من الفوضى والدمار. ثم أليست الأحلام وسيلة أحياناً لحشد الطموح أو، على الأقل، كي لا يفقد الإنسان إنسانيته في عالم انهارت فيه كل القيم والثوابت؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق